فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال محمد بن عليّ الترمذيّ: جنةٌ لخوفه من ربه، وجنةٌ لتركه شهوته.
وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض.
وقيل: المقام الموضع؛ أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدّم.
ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34] وقوله في موضع آخر: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].
{جَنَّتَانِ} أي لمن خاف جنتان على حدة؛ فلكل خائف جنتان.
وقيل: جنتان لجميع الخائفين؛ والأوّل أظهر.
وروي عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت» ذكره المهدوي والثعلبي أيضًا من حديث أبي هريرة.
وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها.
وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا.
وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه.
وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها.
وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم.
وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة؛ فثنى لرؤوس الآي.
وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال تسعة عشر لمراعاة رءوس الآي.
وأيضًا قال: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ}.
وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فَتُثَنَّى في الشعر؛ وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {جَنَّتَانِ} ويصفهما بقوله: {فِيهِمَا} فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة.
وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خَاصةً حين ذكر ذات يوم الجنة حين أُزْلِفَت والنار حين بُرِّزَت؛ قاله عطاء وابن شَوْذَب.
وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنًا على ظمإ فأعجبه، فسأل عنه فأخبر أنه من غير حِلّ فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه؛ فقال: «رحمك الله لقد أنزلت فيك آية» وتلا عليه هذه الآية.
قوله تعالى: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فنّ.
وقال مجاهد: الأفنان الأغصان واحدها فنن؛ قال النابغة:
بكاء حمامةٍ تَدْعو هَدِيلًا ** مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغنِّي

وقال آخر يصف طائرين:
باتا على غُصْنِ بَانٍ في ذُرَى فَنَنٍ ** يُرَددانِ لُحونًا ذاتَ أَلْوَانِ

أراد باللحون اللغات.
وقال آخر:
ما هاجَ شَوْقَك مِن هَدِيلِ حمامةٍ ** تَدْعو على فَنَنِ الغُصونِ حَمامَا

تدعو أبا فَرْخَيْن صادف ضارِيًا ** ذا مِخْلَبَيْنِ مِن الصُّقورِ قَطَامَا

والفنن جمعه أفنان ثم الأفانين؛ وقال يصف رَحىً:
لها زِمامٌ مِن أفانِينِ الشَّجَرْ

وشجرة فَنَّاء أي ذات أفنان وفنواء أيضًا على غير قياس.
وفي الحديث: «أن أهل الجنة مُرْدٌ مكحَّلون أولو أفانين» يريد أولو فَنَن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فننٍ وهو الخُصْلة من الشعر شبّه بالغصن. ذكره الهروي.
وقيل: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أي ذواتًا سعة وفضل على ما سواهما؛ قاله قتادة.
وعن مجاهد أيضًا وعكرمة: إن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة منهما عين جارية.
قال ابن عباس: تجريان ماءً بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة.
وعن ابن عباس أيضًا والحسن: تجريان بالماء الزّلال؛ إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل.
وعنه أيضًا: عينان مثل الدنيا أضعافًا مضاعفةً، حصباؤها الياقوت الأحمر والزَّبَرْجَد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران.
وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين.
وقيل: تجريان من جبل من مسك.
وقال أبو بكر الوّراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي صنفان وكلاهما حلوٌ يستلذ به.
قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطِّيب.
وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرها هنا عينين جاريتين، وذكر ثَمَّ عينين تَنْضخان بالماء والنّضخ دون الجري؛ فكأنه قال: في تَيْنك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان.
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} هو نصب على الحال.
والفُرُش جمع فراش، وقرأ أبو حَيْوة {فُرْشٍ} بإسكان الراء.
{بَطَآئِنُهَا} جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة.
والإستبرق ما غلظ من الديباج وخشن؛ أي إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة؛ قاله ابن مسعود وأبو هريرة.
وقيل لسعيد بن جُبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.
وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ظواهرها نور يتلألأ» وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد.
وعن الحسن أيضًا: البطائن هي الظواهر؛ وهو قول الفراء، وروي عن قتادة.
والعرب تقول للظهر بطنًا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء؛ لظاهرها الذي نر اهـ.
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا وَلى كلُّ واحد منهما قومًا، كالحائط بينك وبين قوم؛ وعلى ذلك أمر السماء.
{وَجَنَى الجنتين دَانٍ} الجَنَى ما يُجتنَى من الشجر؛ يقال: أتانا بجَنَاةٍ طيبة لكل ما يجتنى.
وثمر جنِيّ على فَعِيل حين جُنِي؛ وقال:
هذا جَنَايَ وخِيَاره فِيهْ ** إِذْ كلُّ جانٍ يَدُهُ إِلى فِيهْ

وقرئ: {جِنَى} بكسر الجيم.
{دانٍ} قريب.
قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليُّ اللَّهِ إن شاء قائمًا وإن شاء قاعدًا وإن شاء مضطجعًا؛ لا يرد يدَه بُعدٌ ولا شوك. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} إلخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، و{مَّقَامِ} مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي {وَلِمَنْ خَافَ} قيام ربه وكونه مهيمنًا عليه مراقبًا له حافظًا لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وهذا مروى عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: {يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى {وَلِمَنْ خَافَ} مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى عند عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضًا، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوّز أن يكون مقحمًا على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ** مقام الذئب كالرجل اللعين

وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين: {جَنَّتَانِ} فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأين هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟.
وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية.
وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشى عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فاقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان.
والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفًا من لم يكن للذنوب تاركًا، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته.
وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفًا من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زني وإن سرق؟ فقال الثالثة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإنْ رغم أنف أبي الدرداء» وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وإن زنى وإن سرق فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل.